الدكتور عبد الجليل المصطفى يكتب ... من الإدارة إلى الاقتصاد… خريطة إصلاح شاملة ترسم ملامح موريتانيا الجديدة

في السنوات الأخيرة، بدا وكأن رياحاً جديدة تهبّ على بلدنا، تحمل معها رائحة الإصلاح ووعود التحديث على امتداد الرمال التي تعوّدت الصبر، تردّد لفظ “تحسين” و”تطوير” ولن نقبل أي تأخير " مثل تراتيل يومية، وأخذت الدولة تُعيد ترتيب بيتها الداخلي، لبناء عقدٍ اجتماعي أكثر توازناً بين المواطن والمؤسسات.

أول خيوط هذا المسعى ظهرت في الإدارة، حيث اتجهت الحكومة إلى تبسيط الإجراءات وتوسيع رقمنة الخدمات، حتى لا تبقى نافذة المواطن على الدولة رهينة الورق والطوابير. صار الحديث عن منصات إلكترونية وتراخيص تُستخرج عن بُعد، وعن مسارات أوضح لمعاملات الاستثمار، خطوةً صغيرة في ظاهرها، كبيرة في أثرها؛ إذ تقتطع من زمن الانتظار وتزرع الثقة في عدالة الوصول إلى الخدمة.

وفي التعليم، حاولت الإصلاحات أن تُعيد للمدرسة مكانتها بوصفها بيت المعنى الأول. جرى التركيز على تحسين البنية الأساسية في المناطق اللتى تسجل نقصا، واكتتاب ودعم تكوين المعلّمين، ومراجعة المناهج باتجاه صلة أوثق بسوق العمل. لم يكن الطريق سهلاً أمام مدارس تتقاسم الظل مع الرمال والريح، لكن البذرة زُرعت من أجل أن يتحول الصف إلى ورشة معرفة حية، وأن يجد التلميذ في كتابه مرآةً لزمنه وآماله.

أما الصحة، فتعلمت من العواصف أن القلوب لا تُقاس بنبض المدن وحدها. تحرّكت الدولة لتقوية قدرات المستشفيات، وتوسيع نطاق الخدمات الأساسية، وتيسير الولوج إلى الدواء وتوسيع قاعدة المؤمنين مع اهتمام أكبر بالبُعد الوقائي وتوزيع الموارد على الولايات الداخلية. وبين درس الوباء وخيارات المستقبل، أصبحت الاستعدادات والجاهزية جزءاً من نقاش يومي على وسائل التواصل الإجتماعى حول ما يعنيه حق المواطن في رعاية كريمة.

وفي الاقتصاد، كان الأفق أوسع من حدود الخريطة. سعت السياسات إلى تنويع مصادر النمو عبر تشجيع الاستثمار المنتج، واستغلال أفضل للثروات الطبيعية، وإتاحة فرص جديدة في الطاقات المتجددة والاقتصاد الرقمي، مع برامج لدعم المقاولات الصغيرة وتمويل المبادرات الشبابية. هذه عتبات لا تُقطَع قفزاً، بل بخطى مترابطة: بنية تحتية تُمكّن، وتشريعات تحمي، وبيئة أعمال تتنفس ثقة واستقراراً.

البنية التحتية بدورها حاولت أن تُلملم المسافات وتقرّب الأطراف. طرق تُعبد لتصل قريةً بمستشفى، وميناءٌ يتوقد ليحمل خيرات البحر إلى الأسواق، وشبكات كهرباء تمتد لتضيء ليالٍ طال ظلامها.

في الحوكمة والشفافية، تعالت الدعوات إلى ترسيخ المساءلة وتحديث أدوات المتابعة المالية، وتكريس مبدأ تكافؤ الفرص في التوظيف والصفقات العمومية. هنا تتجلى الإرادة السياسية في أدق صورها: مراجعة القوانين والمدونات وسد كل ثغرة يمكن لشخص أن يستغلها وجعل المؤسسات تقوى بالقانون لا بالأفراد، حيث يصبح الفرد مهما كانت وضعيته أدات تنفيذ ملزمة بالتباع ماهو أمامها.

وفى التنمية المستدامة وتوفير الخدمات الأساسية لم تكتفى السلطات المحلية بالمجهودات الكبيرة اللتى بذلتها من أجل توفير الماء والكهرباء فى العاصمة اللتى تضم مايقارب ربع الساكنة بل صاحبت تلك الجهود بضخ 260 مليار من الأوقية لتنمية الولايات الداخلية حتى تكبح سيل الهجرة المتدفق إلى العاصمة وتخفف من الضغط عليها.

ولم تغب العدالة الاجتماعية عن جدول الإصلاح. برامج دعمٍ للفئات الهشة، وتوسيع شبكات الأمان الاجتماعي، ومقاربات تشرك المجتمع المدني وتستلهم خبرته الميدانية. الإصلاح حين ينجح لا يرفع المتوسطات فقط؛ بل يمدّ اليد إلى الأضعف ليقف في الصف ذاته.

هذه الخطوط العامة لا تعني أن الطريق خالٍ من المنعطفات. فالتحديات قائمة: موارد محدودة، وانتظارات اجتماعية متزايدة، وبيروقراطية ترث طبائعها الثقيلة. غير أن الإصلاح وعدٌ يتغذى من أمرين لا ثالث لهما: الاستمرارية والتقييم. استمرارية تحمي الجهود ، وتقييم صريح يُصحّح المسار ويُعيد ترتيب الأولويات بشفافية.

لاشك أن بلادنا اليوم تسير كقافلة تعرف وجهتها: دولة تسعى إلى تحديثٍ ومراجعة دائمة تضع الإنسان في القلب لا في الهامش. ومن يتلمس مانمر به اليوم يدرك جيدا أننا نمر بإصلاح حقيقي لايجعل من تعداد انجازاته هدفا بل ثقافة عمل جديدة تُقاس بكرامة المواطن وهو يتلقى الخدمة، وبثقة المستثمر وهو يضع خطته، وبأمل الطالب وهو يفتح كتابه، والمثقف يتابع ويحترم الأرقام فى مجاله بصدق. فإن واصلنا وأحسنا البناء على ماتحقق ويتحقق فسنكونو محظوظين بالشهادة على كتابة فصل واعد في سيرة البلد.