استفتاني أحد الإخوة عن مدى قانونية إلزامه – على أساس أنه مالك سابق لسيارة – بتحمل غرامات مخالفات سير ارتكبت باستخدام مركبة لم تعد في حوزته بعد انتقال ملكيتها وحيازتها إلى مالك جديد بناء على عقد بيع مكتمل الشروط، متسائلا عن مدى تأسيس قرار وزارة الداخلية وإدارة الأمن باعتبار استمرار مسؤولية الشخص المقيد لدى إدارة النقل كمالك للعربة، عن المخالفات التي ترتبط بها، بغض النظر عن عقد انتقال الملكية ما دامت البطاقة الرمادية (التي أصبحت خضراء) تحمل اسمه. وإسهاما في نشر الثقافة القانونية وتكريس سيادة القانون ارتأيت تناول قانون السير من خلال عدة مقالات أسعى من خلال أولها إلى رفع اللبس عن المسؤولية القانونية في مخالفات السير (أولا) قبل أن أبين أسس قرار الشرطة تحميل المسؤولية للشخص المقيد في البطاقة (ثانيا) وأثير أسبابا تبرر رجوع وزارة الداخلية عن قرارها الذي يجوز لكل ذي مصلحة أن يطعن فيه ويطالب القضاء بإلغائه (ثالثا) وأخلص لتوصيات أعتقد أنها تكرس الوضع السوي وتخدم الوطن والمواطن (رابعا).
أولا/ المسؤولية عـن مخالفات السير
تنقسم المسؤولية عن مخالفات السير إلى نوعين: مسؤولية جنائية يتحملها سائق السيارة الذي ارتكب الفعل ومسؤولية مدنية يتحملها مالك المركبة ويتعين أن يضمنها المؤمن على المسؤولية بالنسبة للسيارات المؤمنة. وتقوم المسؤولية الجنائية إثر ارتكاب فعل مجرم أو خطأ يؤاخذ بهما مرتكبهما ويسأل عنهما دون غيره عملا بقوله تعالى: "وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه" (الآية 13 من سورة الإسراء) وقوله جل من قائل: "كل امرئ بما كسب رهين" (الآية 21 من سورة الطور) وقوله سبحانه: "ولا تزر وازرة وزر أخرى" (الآيتين 164 من سورة الأنعام و18 من سورة فاطر) ذلك أن المسؤولية الجنائية مسؤولية شخصية يتحملها الفرد الذي ارتكب الفعل ولا قائل بأن تحمل على غيره ولو كان مالك السيارة المستخدمة فعلا لارتكاب الجرم أو الخطأ. أما المسؤولية المدنية فيتحملها المالك وتقوم على أساس مسؤولية الشخص عن الأشياء التي في حراسته والتي يلزم بجبر ما ينجم عنها من ضرر ومن هذه الأشياء السيارات التي تعرض الناس لخطر يتعين أن يتحمل مالكها، المنتفع بها، ما ينجم عن سعيها من أضرار.
وتنص المادة الأولى من الأمر القانوني رقم 2006-047 الصادر بتاريخ 6 دجنبر 2006 المتضمن تنظيم حركة الطرق على ما يلي: "يعتبر سائق السيارة مسؤولا جنائيا عما يرتكبه من مخالفات أثناء سياقة السيارة المذكورة. ومع ذلك عندما يتصرف السائق باعتباره وكيلا يمكن للمحكمة، اعتبارا للظروف الواقعية المتعلقة بالعمل أن تقرر أن تدير الغرامات البوليسية الصادرة بمقتضى هذا الأمر القانوني وكذا مصاريف العدالة الممكن أن تضاف إلى هذه الغرامات ستكون كليا أو جزئيا على عاتق مقترف المخالفة". ومع التحفظ على صياغة المادة التي تضمنت لفظا عاميا غير فصيح (تدير) فإن مقتضاها كرس مسؤولية السائق من حيث المبدأ وفي حال الاستثناء خولت المادة للمحكمة أن (تدير) الغرامات على مقترف المخالفة وكأنها تقصد غير السائق؟!
وتكرس المادة 98 من قانون الالتزامات والعقود الموريتاني، الذي يعد قانونا مرجعيا لباقي القوانين، مسؤولية الشخص عن الضرر المادي أو المعنوي الذي يحدثه لا بفعله فقط وإنما بخطئه وذلك عندما يثبت أن هذا الخطأ هو السبب المباشر في الضرر وأتبعت الفقرة الثانية من المادة الحكم بتحذير صريح مقتضاه أن كل شرط مخالف لذلك يكون عديم الأثر فانتبهوا. فإذا افترضنا جدلا بأن مختارا باع سيارة لخديجة واتفقا على استمرار البائع في تحمل المخالفات التي ترتكبها المشترية وكل من يقود السيارة، لمدة مستقبلية محددة أو غير محددة، فإن اتفاقهما يعتبر باطلا ولا عمل به، لأن كل شخص ملزم بتحمل تبعات أخطائه.. ويتعين الانتباه إلى أن هذا المقتضى لا ينطبق إلا على المخالفات المستقبلية أما التي ارتكبت بالفعل وصدر الحكم المتضمن لعقوبتها فيجوز للشخص أن يسددها أو يتكفل بتبعاتها المالية عن غيره بخلاف الحبس الذي لا يمكن أن يتحمله إلا الشخص المدان. ويعرف القانون الخطأ بأنه ترك ما كان يجب فعله وفعل ما كان يجب تركه من غير قصد لإحداث الضرر. واعتبارا لكون القانون أبطل تحمل الشخص طواعية وبإرادته للمسؤولية عن أخطاء الآخرين فلا قائل بجواز أن تحمله الإدارة أو غيرها ذلك.
ويتعين عدم الخلط بين الغرامة والتعويض فالغرامة عقوبة جنائية تقرر لصالح خزينة الدولة بهدف ردع المخالفين لا بهدف التحصيل أما التعويض فيكون جبرا للأضرار المادية والمعنوية الناجمة عن الفعل وقد يكون التعويض مستحقا للدولة أو إحدى المؤسسات العمومية فإذا صدمت سيارة عمود إنارة عمومي فإن المسؤول مدنيا يكون ملزما بإصلاح الضرر الذي سببته سيارته تعويضا للدولة أو للمؤسسة القائمة على المرفق المتضرر.
وجدير بالذكر أن القانون يعتبر المخالفات جرائم حيث تعـرف المادة الأولى من القانون الجنائي الموريتاني المخالفة بأنها "الجريمة التي يعاقب عليها القانون عقوبة المخالفة" وقد نصت الفقرة الثانية من المادة 484 من قانون الإجراءات الجنائية على ما يلي: "تعد مخالفات الجرائم التي يعاقب عليها بعقوبة حبس أقصاه شهر وبغرامة أقصاها عشرة آلاف (10.000) أوقية أو بإحدى العقوبتين فقط سواء وقعت مصادرة الأشياء المحجوزة أم لا ومهما كانت قيمتها" وبالرجوع إلى المادة 34 من القانون الجنائي نجد تداخلا بين عقوبات الجنح والمخالفات حيث تحدد الحد الأدنى لعقوبات الجنح بأحد عشر يوما.
وتنص المادة 4 من قانون العقوبات على أنه لا عقوبة على المخالفة أو الجنحة أو الجناية إلا بمقتضى نص قانوني سابق على ارتكابها.. ولئن كانت المادة 57 من دستور الجمهورية الإسلامية الموريتانية نصت على أنه يدخل في مجال القانون تحديد الجرائم والجنح وكذلك العقوبات التي تنفذ بموجبها الإجراءات الجنائية ولم تذكر المخالفات كما نصت المادة 448 من قانون العقوبات على أن مختلف درجات المخالفات وعقوباتها تحدد بمرسوم.. فإنني أعتقد أن ذلك غير وارد لأن تحديد العقوبات ينبغي أن يكون من صلاحيات السلطة التشريعية مما يحتم أن تدخل عقوبات المخالفات في مجال القانون.
ثانيا/ قـرار الشرطة بقيد المخالفات على أساس بطاقة الملكية
أحال إلي السائل بيانا صادرا عن الشرطة الوطنية - تأكدت من نشره على صفحتها على الفيسبوك بتاريخ 11 ابريل 2025 ومن تناقل وسائل الإعلام الوطنية له في نفس اليوم - تضمن رد الإدارة على زهاء ستمائة (600) تظلم وردتها من مواطنين اشتكوا من تسجيل مخالفات مرورية عليهم دون اعتبار لكونها ارتكبت باستخدام مركبات كانوا قد باعوها وانتقلت ملكيتها لغيرهم.. ولفتت انتباهي فقرة من البيان تضمنت تأكيدا بأن "مسؤولية المخالفات المرورية تبقى قانونيا على عاتق صاحب البطاقة الرمادية المرتبطة برقمه الوطني، ما لم يتم تحديث بيانات ملكية المركبة".. وتعليلا لقرارها استند بيان الشرطة على المرسوم رقم 2007-006 بتاريخ 5 يناير 2007 المحدد لإجراءات تطبيق الأمر القانوني رقم 2006-047 بتاريخ 06/12/2006 المتضمن قانون السير الذي ذكر البيان أن مادته 103 تنص على ما يلي: "في حالة بيع السيارة فإن المالك الأصلي يجب عليه فور تمام المبادلة أن يوجه إلى المديرية المكلفة بالنقل البري عقد بيع موقع من طرف موثق محلف، ويبين هذا العقد بشكل واضح غير قابل للتحريف الملاحظات التالية:
الاسم والاسم الشخصي للموثق، الاسم والاسم الشخصي للمالك، الاسم والاسم الشخصي للمقتني،
رقم تسجيل السيارة وكذا نوعها وماركتها ونمطها وسلسلتها وطاقتها وقوتها وتاريخ المعاملة، ويؤدي عقد البيع هذا إلى إلغاء صلاحية شهادة الترقيم.".
ثالثا/ أسباب توجب الرجوع عـن قـرار الشرطة
يبدو أن نص المادة 103 من مرسوم 2007 الذي أوردت الشرطة في بيانها والذي عللت به قرارها لا يخدم الغرض الذي استخدم لتبريره فعدم قيام المالك القديم بواجب تقييد السيارة لدى مديرية النقل البري يترتب عليه استمرار صلاحية ترقيمها باسمه ولم ترتب عليه المادة اعتباره مدينا بالغرامات الناتجة عن المخالفات التي يرتكبها الغير وإذا افترضنا جدلا أن مادة من المرسوم نصت صراحة على مسؤولية الشخص عن المخالفات المرتكبة باستخدام المركبة، ما دامت بطاقتها مقيدة باسمه، فإن ذلك يكون لاغيا لأن المراسيم تأتي في المرتبة الثالثة من التراتبية القانونية ويجب عليها أن تتقيد بالقواعد الأعلى منها رتبة ومنها قواعد الدستور والقانون، حيث ينص قانون الالتزامات والعقود (وهو قانون مرجعي) على إبطال تحمل الشخص لمسؤوليات الغير الناجمة عن الجرائم وأشباه الجرائم أحرى تحميله ذلك دون اعتبار لإرادته.
إن "القانون هو التعبير الأعلى عـن إرادة المجتمع ويجب أن يخضع له الجميع" فبعـد تصويت السلطة التشريعية على النص وإصدار رئيس الجمهورية له ونشره بالجريدة الرسمية، يصبح قانونا نافذا ومرجعا يجب على السلطتين التنفيذية والقضائية أن تعملا على تطبيقه.. ولئن كان الدستور الموريتاني يخول رئيس الجمهورية أن يمارس السلطة التنظيمية وأن يفوضها جزئيا أو كليا للوزير الأول، فإن التشريعات الفرعية (مراسيم، مقررات وتعميمات) يجب أن تراعي القانون وفي حال صدور نظام يحيد عن مقتضيات القواعد الأعلى منه في التراتبية القانونية فمن الجائز الطعن فيه أمام الغرفة الإدارية بالمحكمة العليا المختصة في دعاوى الإلغاء التي ترفع ضد القرارات الإدارية ومن ضمنها المراسيم، حيث تنص المادة 163 من ق. إ. م. ت. إ. على أنه : "لا يجوز إلغاء القرارات الإدارية المطعون فيها بسبب الشطط في استعمال السلطة إلا بناء على أسباب مستنتجة من العيوب المؤثرة على شرعيته الخارجية بسبب عدم اختصاص من أصدر القرار المعيب في شكله أو إجراءاته وإما شرعيته الداخلية بسبب خرقه لقاعدة قانونية أو تجاوز حدود السلطة".
رابعا/ توصيات لتكريس الوضع السوي
وفي خاتمة هذا المقال أخلص لتوصيات أعتقد أنها تخدم الوطن والمواطن:
1. يتعين على السلطات العمومية أن تعمل على تيسير المعاملات وتقريب الإدارة من المتعاملين وبدلا من إلزام المواطنين الذين يبيعون سياراتهم بالتوجه لمكتب توثيق لتوقيع عقد البيع وبعد الحصول عليه السعي لإدارة النقل البري للمطالبة بإلغاء صلاحية الترقيم، قبل أن يحضر المشتري للمطالبة بإصدار بطاقة جديدة باسمه، مع ما يترتب على تلك المسطرة من عنت وضياع للوقت والمال وما ينجم عنها من زحام في المكاتب العمومية، يمكن تيسير الخدمة بمركزتها عن طريق تكليف الموثقين، علاوة على الإشراف على عقود البيع، باستلام الرسوم المستحقة للدولة وبطاقة السيارة الأصلية موضوع البيع وإصدار وصل مؤقت يحل محلها.. وتكفل (الموثقين) بمتابعة مسطرة استصدار بطاقة جديدة باسم المشتري بالتعاون مع إدارة النقل، على أن يتقرر أجل إصدارها، في الظروف العادية، مسبقا. ويجوز بعد أجل محدد أن تتخذ الإدارة إجراءات مشروعة ترغم كل مشتر على أن يسجل السيارة باسمه ولكن ليس من الإنصاف أن تفرض السلطات ذلك قبل تيسير استصدار البطاقة وتذليل الصعوبات التي تحول دون الحصول عليها والتي ألخص تجربتي الشخصية معها: مع مستهل سنة 2024 اشتريت سيارة مستعملة ووثقت العقد بيني وبين بائعها ولم تبق بيننا أية مطالبة، وبعد انقضاء أكثر من سنة من استخدام السيارة لم يتيسر لي أن أحصل على بطاقة تحمل اسمي، صحيح أني لم أطرق باب الإدارة المعنية لأني لا أزور العاصمة إلا لماما.. ولأني لا أزال أستخدم بطاقة السيارة التي تحمل اسم البائع اضطررت لتوقيع عقد تأمين باسمه مع ما يمكن أن يترتب على ذلك من تبعات قانونية تتيح لشركات التأمين أن تمارس ما دأبت عليه من تنصل.. وكما بينت أعلاه فمن الظلم أن تستمر السلطات في تحميل المالك السابق لسيارتي مسؤولية مخالفات لم يرتكبها.
2. يحسن العمل على وضع مدونة للسير، مدروسة مبنى ومعنى، تلغي وتحل محل الأمر القانوني رقم 2006-047 الصادر بتاريخ 6 دجنبر 2006 المتضمن تنظيم حركة الطرق وتعديله المضمن في القانون رقم 2022-022 بتاريخ 10 دجنبر 2022.
3. يتعين تفعيل مسطرة المخالفات بجعلها من اختصاص محكمة الولاية بدل محكمة المقاطعة كي يتاح للمستخدمين التظلم أمام النيابة العامة التي تتبع لها القوة العمومية.
وفي خاتمة هذا المقال، الذي سأتبعه، بإذن الله، مقالات أخرى في ذات الموضوع، أنصح الإدارة العامة للأمن بأن تدرج في خطط عملها تكوينا مستمرا لأفرادها يكون ضمن برنامجه تعميم مقتضيات الأمر القانوني رقم 025/2007 بتاريخ 9 ابريل 2007 المتضمن للمدونة الأخلاقية ولمن يهمه الأمر أن يستلهم من المعاملة الأخلاقية التي دأب عليها القاضي الآمريكي افرانك كابريو Frank CAPRIO للمتهمين بارتكاب مخالفات السير ببلدة ابروفيدنس، التي كان يعمل بها قبل تقاعده، وهي معاملة متاحة بالصوت والصورة وبالعربية على قناة اليوتيوب.